الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضًا، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتًا خاصًا ولأشراف قريش وقتًا آخر ليتآلفوا فيقودهم إلى الإيمان؛ وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلى الله عليه وسلم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام.{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} في موضع الحال من ضمير {يَدَّعُونَ}. وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل وهو المشهور إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادًا لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل: المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل: إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتًا أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا السبب جعل الوجه كناية عنها قاله الإمام وهو كما ترى وجوز أيضًا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل، والمعنى يريدونه.{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْء} ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين. وجوز في ما أن تكون تميمية وحجازية وفي {شَيْء} أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي و{مِنْ حِسَابِهِم} وصف له قدم فصار حالًا، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف المتقدم متعلق حذوف وقع خبرًا مقدمًا له و{مِنْ} زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرًا له ودفعًا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغًا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} [هود: 27]، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسا هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئًا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم.{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَيْء} عطف على ما قبله، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلًا وهو انتفاء كون حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34، والنحل: 61] في رأي. وقال الزمخشري: إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدي {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لابد من الجملتين، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل. وتقديم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين قيل للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل: إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم.وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى إنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير في قوله سبحانه: {فَتَطْرُدَهُمْ} للمؤمنين على كل حال، والفعل منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل: ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا.وقوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفًا على {فَتَطْرُدَهُمْ} على وجه التسبب لأن الكون ظالمًا معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبًا على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبًا على المنفي ومنتفيًا بانتفائه يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضًا فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض أيضًا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلى الله عليه وسلم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم وطردهم لكان ظلمًا وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه.وأجيب بأنه على حد «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه». وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل: ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلمًا وذلك لأن الطرد جعل سببًا للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد نعم العبد إلخ بل هو خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابًا للنهي كما جاز أن يكون جوابًا للنفي، ونقل عن الدر المصون وقال: الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى، وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلًا إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسنًا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لإعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيمًا فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقًا كما في قوله: وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم؛ وأيًا ما كان فالمراد فتكون من الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم.
|